فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وثانيها: أن كثيرًا من الكفار في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون كيف نترك دين آبائنا وأجدادنا فذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام وبين أنه ترك دين أبيه وأبطل قوله بالدليل ورجح متابعة الدليل على متابعة أبيه ليعرف الكفار أن ترجيح جانب الأب على جانب الدليل رد على الأب الأشرف الأكبر الذي هو إبراهيم عليه السلام.
وثالثها: أن كثيرًا من الكفار كانوا يتمسكون بالتقليد وينكرون الاستدلال على ما قال الله تعالى: {قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] و{قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين} [الأنبياء: 53] فحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام التمسك بطريقة الاستدلال تنبيها لهؤلاء على سقوط هذه الطريقة ثم قال تعالى في وصف إبراهيم عليه السلام: {إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا نَّبِيًّا} وفي الصديق قولان: أحدهما: أنه مبالغة في كونه صادقًا وهو الذي يكون عادته الصدق لأن هذا البناء ينبىء عن ذلك يقال رجل خمير وسكير للمولع بهذه الأفعال.
والثاني: أنه الذي يكون كثير التصديق بالحق حتى يصير مشهورًا به والأول أولى وذلك لأن المصدق بالشيء لا يوصف بكونه صديقًا إلا إذا كان صادقًا في ذلك التصديق فيعود الأمر إلى الأول فإن قيل أليس قد قال تعالى: {والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء} [الحديد: 19] قلنا: المؤمنون بالله ورسله صادقون في ذلك التصديق واعلم أن النبي يجب أن يكون صادقًا في كل ما أخبر عنه لأن الله تعالى صدقه ومصدق الله صادق وإلا لزم الكذب في كلام الله تعالى فيلزم من هذا كون الرسول صادقًا في كل ما يقول، ولأن الرسل شهداء الله على الناس على ما قال الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيدًا} [النساء: 41] والشهيد إنما يقبل قوله: إذا لم يكن كاذبًا.
فإن قيل: فما قولكم في إبراهيم عليه السلام في قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63] و{إِنّى سَقِيمٌ} قلنا قد شرحنا في تأويل هذه الآيات بالدلائل الظاهرة أن شيئًا من ذلك ليس بكذب فلما ثبت أن كل نبي يجب أن يكون صديقًا ولا يجب في كل صديق أن يكون نبيًا ظهر بهذا قرب مرتبة الصديق من مرتبة النبي فلهذا انتقل من ذكر كونه صديقًا إلى ذكر كونه نبيًا.
وأما النبي فمعناه كونه رفيع القدر عند الله وعند الناس وأي رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه وبين عباده.
وقوله: {كَانَ صِدّيقًا} قيل: إنه صار وقيل إن معناه وجد صديقًا نبيًا أي كان من أول وجوده إلى انتهائه موصوفًا بالصدق والصيانة.
قال صاحب (الكشاف): هذه الجملة وقعت اعتراضًا بين المبدل منه وبدله أعني إبراهيم وإذ قال ونظيره قولك رأيت زيدًا ونعم الرجل أخاك ويجوز أن يتعلق إذ بكان أو بصديقًا نبيًا أي كان جامعًا لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه بتلك المخاطبات أما قوله: {يا أبت} فالتاء عوض عن ياء الإضافة ولا يقال يا أبتي لئلا يجمع بين العوض والمعوض عنه وقد يقال: يا أبتا لكون الألف بدلًا من الياء واعلم أنه تعالى حكى أن إبراهيم عليه السلام تكلم مع أبيه بأربعة أنواع من الكلام.
النوع الأول: قوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئًا} ووصف الأوثان بصفات ثلاثة كل واحدة منها قادحة في الإلهية وبيان ذلك من وجوه: أحدها: أن العبادة غاية التعظيم فلا يستحقها إلا من له غاية الإنعام وهو الإله الذي منه أصول النعم وفروعها على ما قررناه في تفسير قوله: {وإِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} [مريم: 36] وقال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] الآية وكما يعلم بالضرورة أنه لا يجوز الاشتغال بشكرها ما لم تكن منعمة وجب أن لايجوز الاشتغال بعبادتها.
وثانيها: أنها إذا لم تسمع ولم تبصر ولم تميز من يطيعها عمن يعصيها فأي فائدة في عبادتها، وهذا ينبهك على أن الإله يجب أن يكون عالمًا بكل المعلومات حتى يكون العبد آمنًا من وقوع الغلط للمعبود.
وثالثها: أن الدعاء مخ العبادة فالوثن إذا لم يسمع دعاء الداعي فأي منفعة في عبادته وإذا كانت لا تبصر بتقرب من يقترب إليها فأي منفعة في ذلك التقرب.
ورابعها: أن السامع المبصر الضار النافع أفضل ممن كان عاريًا عن كل ذلك، والإنسان موصوف بهذه الصفات فيكون أفضل وأكمل من الوثن فكيف يليق بالأفضل عبادة الأخس.
وخامسها: إذا كانت لا تنفع ولا تضر فلا يرجى منها منفعة ولا يخاف من ضررها فأي فائدة في عبادتها.
وسادسها: إذا كانت لا تحفظ أنفسها عن الكسر والإفساد على ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه كسرها وجعلها جذاذًا فأي رجاء للغير فيها واعلم أنه عاب الوثن من ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يسمع.
وثانيها: لا يبصر.
وثالثها: لا يغني عنك شيئًا كأنه قال له: بل الإلهية ليست إلا لربي فإنه يسمع ويجيب دعوة الداعي ويبصر، كما قال: {إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46] ويقضي الحوائج: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] واعلم أن قوله هاهنا {لِمَ تَعْبُدُ} محمول على نفس العبادة وأما قوله في المقام الثالث: {لاَ تَعْبُدِ الشيطان} لا يقال ذلك بل المراد الطاعة لأنهم ما كانوا يعبدون الشيطان فوجب حمله على الطاعة ولأنا نقول ليس إذا تركنا الظاهر هاهنا لدليل وجب ترك الظاهر في المقام الأول بغير دليل فإن قيل: إما أن يقال إن أبا إبراهيم كان يعتقد في تلك الأوثان أنها آلهة بمعنى أنها قادرة مختارة موجدة للناس والحيوانات أو يقال إنه ما كان يعتقد ذلك بل كان يعتقد أنها تماثيل الكواكب والكواكب هي الآلهة المدبرة لهذا العالم، فتعظيم تماثيل الكواكب بموجب تعظيم الكواكب أو كان يعتقد أن هذه الأوثان تماثيل أشخاص معظمة عند الله تعالى من البشر فتعظيمها يقتضي كون أولئك الأشخاص شفعاء لهم عند الله تعالى أو كان يعتقد أن تلك الأوثان طلسمات ركبت بحسب اتصالات مخصوصة للكواكب قلما يتفق مثلها، وأنها مشفع بها، أو غير ذلك من الأعذار المنقولة عن عبدة الأوثان، فإن كان أبو إبراهيم من القسم الأول كان في نهاية الجنون لأن العلم بأن هذا الخشب المنحوت في هذه الساعة ليس خالقًا للسموات والأرض من أجلى العلوم الضرورية، فالشاك فيه يكون فاقدًا لأجلى العلوم الضرورية فكان مجنونًا والمجنون لا يجوز إيراد الحجة عليه والمناظرة معه، وإن كان من القسم الثاني فهذه الدلائل لا تقدح في شيء من ذلك لأن ذلك المذهب إنما يبطل بإقامة الدلالة على أن الكواكب ليست أحياء ولا قادرة على خلق الأجسام وخلق الحياة ومعلوم أن الدليل المذكور هاهنا لا يفيد ذلك المطلوب فعلمنا أن هذه الدلالة عديمة الفائدة على كل التقديرات، قلنا: لا نزاع أنه لا يخفى على العاقل أن الخشبة المنحوتة لا تصلح لخلق العالم وإنما مذهبهم هذا على الوجه الثاني، وإنما أورد إبراهيم عليه السلام هذه الدلالة عليهم لأنهم كانوا يعتقدون أن عبادتها تفيد نفعًا إما على سبيل الخاصية الحاصلة من الطلسمات أو على سبيل أن الكواكب تنفع وتضر، فبين إبراهيم عليه السلام أنه لا منفعة في طاعتها ولا مضرة في الإعراض عنها فوجب أن لا تحسن عبادتها.
النوع الثاني: قوله: {يا أبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعنى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} ومعناه ظاهر وطمع في التمسك به أهل التعليم وأهل التقليد أما أهل التعليم فقالوا: إنه أمره بالإتباع في الدين وما أمره بالتمسك بدليل لا يستفاد إلا من الإتباع، وأما أهل التقليد فقد تمسكوا به أيضًا من هذا الوجه، ومن الناس من طعن أنه أمره بالإتباع لتحصل الهداية، فإذن لا تحصل الهداية إلا باتباعه، ولا تبعية إلا إذا اهتدى لقولنا إنه لابد من اتباعه فيقع الدور وإنه باطل.
والجواب عن الأول: أن المراد بالهداية بيان الدليل وشرحه وإيضاحه، فعند هذا عاد السائل فقال: أنا لا أنكر أنه لابد من الدلالة، ولكني أقول الوقوف على تلك الدلالة لا يستفاد إلا ممن له نفس كاملة بعيدة عن النقص والخطأ، وهي نفس النبي المعصوم أو الإمام المعصوم فإذا سلمت أنه لابد من النبي في هذا المقصود فقد سلمت حصول الغرض، أجاب المجيب وقال أنا ما سلمت أنه لابد في الوقوف على الدلائل من هداية النبي، ولكني أقول هذا الطريق أسهل وإن إبراهيم عليه السلام دعاه إلى الأسهل والجواب عن سؤال الدور أن قوله: {فاتبعنى} ليس أمر إيجاب بل أمر إرشاد.
والنوع الثالث: قوله: {يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيًّا} أي لا تطعه لأنه عاص لله فنفره بهذه الصفة عن القبول منه، لأنه أعظم الخصال المنفرة، واعلم أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص لم يذكر من جنايات الشيطان إلا كونه عاصيًا لله ولم يذكر معاداته لآدم عليه السلام كأن النظر في عظم ما ارتكبه من ذلك العصيان غمى فكره وأطبق على ذهنه، وأيضًا فإن معصية الله تعالى لا تصدر إلا عن ضعيف الرأي، ومن كان كذلك كان حقيقًا أن لا يلتفت إلى رأيه ولا يجعل لقوله وزن فإن قيل: إن هذا القول يتوقف على إثبات أمور: أحدها: إثبات الصانع.
وثانيها: إثبات الشيطان.
وثالثها: إثبات أن الشيطان عاص لله.
ورابعها: أنه لما كان عاصيًا لم تجز طاعته في شيء من الأشياء.
وخامسها: أن الاعتقاد الذي كان عليه ذلك الإنسان كان مستفادًا من طاعة الشيطان، ومن شأن الدلالة التي تورد على الخصم أن تكون مركبة من مقدمات معلومات مسلمة، ولعل أبا إبراهيم كان منازعًا في كل هذه المقدمات، وكيف والمحكى عنه أنه ما كان يثبت إلهًا سوى نمروذ فكيف يسلم وجود الإله الرحمن وإذا لم يسلم وجوده، فكيف يمكنه تسليم أن الشيطان كان عاصيًا للرحمن، ثم إن على تسليم ذلك فكيف يسلم الخصم بمجرد هذا الكلام أن مذهبه مقتبس من الشيطان، بل لعله يقلب ذلك على خصمه، قلنا: الحجة المعول عليها في إبطال مذهب آزر هو الذي ذكره أولًا من قوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئًا} فأما هذا الكلام فيجري مجرى التخويف والتحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدلالة، وعلى هذا التقدير يسقط السؤال.
النوع الرابع: قوله: {يا أبت إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن فَتَكُونَ للشيطان وَلِيًّا} قال الفراء: معنى أخاف أعلم.
والأكثرون على أنه محمول على ظاهره، والقول الأول إنما يصح لو كان إبراهيم عليه السلام عالمًا بأن أباه سيموت على ذلك الكفر وذلك لم يثبت فوجب إجراؤه على ظاهره فإنه كان يجوز أن يؤمن فيصير من أهل الثواب ويجوز أن يصر فيموت على الكفر، فيكون من أهل العقاب، ومن كان كذلك كان خائفًا لا قاطعًا، واعلم أن من يظن وصول الضرر إلى غيره فإنه لا يسمى خائفًا إلا إذا كان بحيث يلزم من وصول ذلك الضرر إليه تألم قلبه كما يقال أنا خائف على ولدي أما قوله: {فَتَكُونَ للشيطان وَلِيًّا} فذكروا في الولي وجوهًا: أحدها: أنه إذا استوجب عذاب الله كان مع الشيطان في النار والولاية سبب للمعية وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز وإن لم يجز حمله إلى الولاية الحقيقية لقوله تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] وقال: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25] وحكى عن الشيطان أنه يقول لهم: {إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} [إبراهيم: 22] واعلم أن هذا الإشكال إنما يتوجه إذا كان المراد من العذاب عذاب الآخرة، أما إذا كان المراد منه عذاب الدنيا فالإشكال ساقط.
وثانيها؛ أن يحمل العذاب على الخذلان أي إني أخاف أن يمسك خذلان الله فتصير مواليًا للشيطان ويبرأ الله منك على ما قال تعالى: {وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيًّا مّن دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} [النساء: 119].
وثالثها: وليًا أي تاليًا للشيطان، تليه كما يسمى المطر الذي يأتي تاليًا وليًا فإن قيل قوله: {أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن فَتَكُونَ للشيطان وَلِيًّا} يقتضي أن تكون ولاية الشيطان أسوأ حالًا من العذاب نفسه وأعظم، فما السبب لذلك.
والجواب: أن رضوان الله تعالى أعظم من الثواب على ما قال: {ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ ذلك هُوَ الفوز العظيم} [التوبة: 72] فوجب أن تكون ولاية الشيطان التي هي في مقابلة رضوان الله أكبر من العذاب نفسه وأعظم.
واعلم أن إبراهيم عليه السلام رتب هذا الكلام في غاية الحسن لأنه نبه أولًا على ما يدل على المنع من عبادة الأوثان ثم أمره باتباعه في النظر والاستدلال وترك التقليد ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي ثم إنه عليه السلام أورد هذا الكلام الحسن مقرونًا باللطف والرفق فإن قوله في مقدمة كل كلام {يا أبت} دليل على شدة الحب والرغبة في صونه عن العقاب وإرشاده إلى الصواب، وختم الكلام بقوله: {إِنّى أَخَافُ} وذلك يدل على شدة تعلق قلبه بمصالحه وإنما فعل ذلك لوجوه: أحدها: قضاء لحق الأبوة على ما قال تعالى: {وبالوالدين إحسانا} [الإسراء: 23] والإرشاد إلى الدين من أعظم أنواع الإحسان، فإذا انضاف إليه رعاية الأدب والرفق كان ذلك نورًا على نور.
وثانيها: أن الهادي إلى الحق لابد وأن يكون رفيقًا لطيفًا يورد الكلام لا على سبيل العنف لأن إيراده على سبيل العنف يصير كالسبب في إعراض المستمع فيكون ذلك في الحقيقة سعيًا في الإغواء.
وثالثها: ما روى أبو هريرة أنه قال عليه السلام: «أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام أنك خليلي فحسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأن أسكنه حظيرة قدسي وأدنيه من جواري» والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)}.
قوله: {واذكر} بمعنى واتل وشهر، لان الله تعالى هو الذكر، و{الكتاب} هو القرآن وهذا وشبهه من لسان الصدق الذي أبقاه الله عليهم، و{الصديق}، فعيل بناء مبالغة من الصدق، وقرأ أبو البرهسم {إنه كان صادقًا}، والصدق عرفه في اللسان وهو مطرد في الأفعال والخلق، ألا ترى أنه يستعار لما لا يعقل فيقال صدقني الطعام كذا وكذا قفيزًا، ويقال عود صدق للصلب الجيد، فكان إبراهيم عليه السلام يوصف بالصدق على العموم في أفعاله وأقواله وذلك يغترق صدق اللسان الذي يضاد الكذب، وأبو بكر رضي الله عنه وصف ب (صدّيق) لكثرة ما صدق في تصديقه بالحقائق وصدق في مبادرته الى الإيمان وما يقرب من الله تعالى، و(الصديق) مراتب ألا ترى أن المؤمنين صديقون لقوله تعالى: {الذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون} [الحديد: 19]. وقوله: {يا أبت}، اختلف النحاة في التاء من {أبت}، فمذهب سيبويه أنها عوض عن ياء الإضافة والوقوف عنده عليها بالهاء، ومذهب الفراء أن يوقف عليها بالتاء، لان الياء التي للإضافة عنده منوية وجمهور القراء على كسر التاء، وفي مصحف ابن مسعود {واأبت} بواو للنداء، وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر. {يا أبتَ} بفتح التاء، ووجهها أنه أراد (يا أبتا) فحذف الألف وترك الفتحة دالة عليها، ووجه آخر أن تكون التاء المقحمة كالتي في قوله يا طلحة وفي هذا نظر وقد لحن هارون هذه القراءة، والذي {لا يسمع ولا يبصر}، هو الصنم ولو سمع وأبصر كما هي حالة الملائكة وغيرهم ممن عبد لم يحسن عبادتها، لكن بين إبراهيم عليه السلام بنفي السمع والبصر شنعة الرأي في عبادتها وفساده. وقوله: {قد جاءني} يدل على أن هذه المقاولة هي بعد أن نبئ، و(الصراط السوي)، معناه الطريق المستقيم، وهو طريق الإيمان، وقوله: {يا أبت لا تعبد الشيطان}، مخاطبة بر واستعطاف على حالة كفره. وقوله: {لا تعبد الشيطان} يحتمل أن يكون أبوه ممن عبد الجن ويحتمل أن يجعل طاعة الشيطان المعنوي في عبادة الأوثان والكفر بالله عبادة له. و(العصى)، فعيل من عصى يعصي اذا خالف الأمر، وقوله: {أخاف أن يمسك} قال الطبري وغيره {أخاف} بمعنى أعلم.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر عندي أنه خوف على بابه، وذلك أن إبراهيم عليه السلام لم يكن في وقت هذه المقاولة يائسًا من إيمان أبيه، فكان يرجو ذلك وكان يخاف أن لا يؤمن ويتمادى على كفره الى الموت فيمسه العذاب، و(الولي) الخالص المصاحب القريب بنسب أو مودة. اهـ.